فصل: تفسير الآية رقم (218):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفيروزابادي:

أَصل الفتنة إِدخال الذَّهبِ النارَ ليُخْتَبَر جودته، والجمع: فِتَن، قال:
وفيك لنا فِتن أَرْبعٌ ** تسُلّ علينا سيوف الخوارج

وقد ورد في القرآن على اثنى عشر وجهًا:
(1) بمعنى العذاب: {ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ}.
(2) وبمعنى الشِّرك: {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}.
(3) وبمعنى الكفر: {لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ}، {مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ}، {وَلَاكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ} أَى كفرتم.
(4) وبمعنى الإِثم {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} أَى إِثم، {وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ} في الإِثم.
(5) وبمعنى العذاب: {مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ} أَى عُذِّبوا.
(6) وبمعنى البلاءِ والمِحْنَة: {أَن يَقُولُواْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} أَى يُبْتَلُونَ، {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} امتحنَّاهُمْ، {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} أَى بلوناك. {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ} أَى ابتليناهم.
(7) وبمعنى التعذيب والحُرقة: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ} أَى عذَّبوهم، {ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ} حُرَقكم.
(8) وبمعنى القتل والهلاك: {إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} أَى يقتلكم، {عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ} أَى يقتلهم.
(9) وبمعنى الصدّ عن الصراط المستقيم: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ}، {وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ} أَى يصدّوكَ. وقيل: يوقعوك في بليّة وشدّة في صرفهم إِيّاك عمّا أُوحى إِليك.
(10) وبمعنى الحَيرة والضَّلال: {مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} أَى بضالِّين، {وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ} أَى ضلالته.
(11) وبمعنى العُذْر وَالعِلّة: {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ} أَى عذرهم.
(12) وبمعنى الجنون والغفلة: {بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} أَى الجنون. وقيل التقدير: أَيكم المفتون والباء زائدة كقوله: {وَكَفَى بِاللَّهِ}.
والفتنة والبلاءُ يستعملان فيما يُدفع إليه الإِنسان من شدّة ورخاء. وهما في الشدّة أَظهر معنى وأَكثر استعمالًا.
وقوله تعالى: {أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ} إِشارة إِلى ما قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ}.
والفتنة من الأَفعال التي تكون من الله تعالى، ومن العبد؛ كالبليّة والمصيبة، والقتل، والعذاب ونحوه من الأَفعال المكروهة. ومتى كان من الله إِنَّما يكون على وجه الحكمة، ومتى كان من الإِنسان بغير أَمر الله يكون ضدّ ذلك. اهـ.

.فصل في رد المأمون على الملحدين وأهل الأهواء:

قال ابن عبد ربه:
قال المأمون للثَّنوي الذي تكلّم عنده: أَسألك عن حَرْفين لا أَزيد عليهما، هل نَدِم مُسيء قط على إساءته؟ قال: بلى؟ قال: فالندَّم على الإساءة إساءةٌ أم إحسان؟ قال: بل إحسان؛ قال: فالذي نَدِم هو الذي أساء أم غَيْره؟ قال: بل هو الذي أساء، قال: فأرَى صاحبَ الخَيْر هو صاحبُ الشر؛ قال: فإني أقول: إن الذي نَدِم غير الذي أساء؟ قال: فنَدِم على شيء كان منه أم على شيء كان من غَيْره، فسكت. قال له أيضًا: أخبرني عن قولك باثنين، هل يَستطيع أحدُهما أن يَخلُق خلقًا لا يَستعين فيه بصاحبه؟ قال: نعم؛ قال: فما تَصنع باثنين؟ واحدٌ يَخلق كلَّ شيء خيرٌ لك وأصح.
وقال المأمون للمُرتد الخراسانيّ الذي أسلم على يَدَيه وحمله معه إلى العِراق فارتدَ عن الإسلام: أَخبرني ما الذي أَوْحَشك مما كنتَ به آنسًا من دِيننا؟ فواللّه لأن أستحييك بحق، أحبّ إليَّ من أن أقتلُك بحق، وقد صِرْتَ مُسلمًا بعد أن كنت كافرًا، ثم عُدت كافرًا بعد أن صِرْت مُسلمًا، وإن وجدتَ عندنا دواءً لدائك تداويتَ به، وإن أخطأك الشفاء، وتَباعد عنك، كنتَ قد أبليتَ العُذْر في نَفْسك، ولم تُقَصرِّ في الاجتهاد لها، فإن قتلناك قَتَلْناك في الشَّريعة، وترجع أنت في نفسك إلى الاستبصار واليَقين، ولم تُفَرِّط في الدُّخول من باب الحزْم؛ قال المرتد: أوْحشني منكم ما رأيتُ من كثرة الاختلاف في دِينكم؛ قال المأمون: لنا اختلافان: أحدُهما كاختلافِنا في الآذان، وتكبير الجنائز، وصلاة العِيدين، والتشهّد، والتَّسليم من الصلاة، ووُجوه القراءات، واختلاف وُجوه الفُتيا، وما أشبه ذلك، وهذا ليس باختلاف، وإنما هو تخيير وتَوْسعة وتخفيف من السنَّة، فمن أذِّن مَثنى وأقام مَثْنى لم يَأثم، ومَن ربع لم يأثم. والاختلاف الآخر كنَحْو اختلافنا في تأويل الآية من كتاب الله، وتأويل الحديث عن نبيّنا، مع اجتماعنا على أصل التنزيل، واتفاقنا على عَينْ الخبر، فإن كان إنما أوْحشك هذا، فينبغي أن يكون اللفظُ بجميع التوراة والإنجيل متفقًا على تأويله كما يكون متفقًا على تَنزيله، ولا يكون بين اليهود والنَّصارى اختلافٌ في شيء من التأويلات، ولو شاء الله أن يُنزِّل كًتبه مُفَسَرة، ويجعل كلامَ أنبيائه ورسله لا يُختلف في تأويله لفَعل، ولَكنَّا لم نجد شيئًا من أمور الدَين والدُنيا وقع إلينا على الكِفاية إلا معِ طُولِ البحث والتَحْصيل والنَّظر، ولو كان الأمر كذلك لسَقَطت البَلْوى والمِحن، وذهَب التفاضل والتبايُن، ولمَا عُرف الحازم من العاجز، ولا الجاهل مِن العالم، وليس على هذا بُنِيت الدنيا. قال المُرتد: أشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، وأن المَسيح عبدُ اللّه، وأنَّ محمدًا صادق، وأنك أمير المؤمنين حقّا.
وقال المأمون لعليّ بن موسى الرِّضا: بِمَ تَدَّعون هذَا الأمر؟ قال: بقرابة عليّ مِن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «وعلى آله وبقرابة فاطمة منه»؟ فقال له المأمون: إنْ لم يكن ها هنا إلا القرابة، فقد خَلف رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من أهل بَيته مَن كان أقربَ إليه من عليّ، أو مَن في مِثل قُعْدُده، وإن كان بقرابة فاطمة من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فإن الحق بعد فاطمة للحسن والحسين، وليس لعلي في هذا الأمر حق وهما حيان، فإذا كان الأمر كذلك، فإن عليًا قد ابتزَهما حقهما وهما صحيحان، واستولى على ما لا يَجب له. فما أجابه علي بن موسى بشيء. اهـ.

.تفسير الآية رقم (218):

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

.قال البقاعي:

ولما بين سبحانه وتعالى المقطوع لهم بالنار بين الذين هم أهل لرجاء الجنة لئلا يزال العبد هاربًا من موجبات النار مقبلًا على مرجئات الجنة خوفًا من أن يقع فيما يسقط رجاءه- وقال الحرالي: لما ذكر أمر المتزلزلين ذكر أمر الثابتين؛ انتهى- فقال: {إن الذين آمنوا} أي أقروا بالإيمان.
ولما كانت الهجرة التي هي فراق المألوف والجهاد الذي هو المخاطرة بالنفس في مفارقة وطن البدن والمال في مفارقة وطن النعمة أعظم الأشياء على النفس بعد مفارقة وطن الدين كرر لهما الموصول إشعارًا باستحقاقهما للاصالة في أنفسهما فقال مؤكدًا للمعنى بالإخراج في صيغة المفاعلة: {والذين هاجروا} أي أوقعوا المهاجرة بأن فارقوا بغضًا ونفرة تصديقًا لإقرارهم بذلك ديارهم ومن خالفهم فيه من أهلهم وأحبابهم. قال الحرالي: من المهاجرة وهو مفاعلة من الهجرة وهو التخلي عما شأنه الاغتباط به لمكان ضرر منه {وجاهدوا} أي أوقعوا المجاهدة، مفاعلة من الجهد- فتحًا وضمًا، وهو الإبلاغ في الطاقة والمشقة في العمل {في سبيل الله} أي دين الملك الأعظم كل من خالفهم {أولئك} العالو الرتبة العظيمو الزلفى والقربة ولما كان أجرهم إنما هو من فضل الله قال: {يرجون} من الرجاء وهو ترقب الانتفاع بما تقدم له سبب ما- قاله الحرالي {رحمت الله} أي إكرامه لهم غير قاطعين بذلك علمًا منهم أن له أن يفعل ما يشاء لأنه الملك الأعظم فلا كفوء له وهم غير قاطعين بموتهم محسنين، قاطعون بأنه سبحانه وتعالى لو أخذهم بما يعلم من ذنوبهم عذبهم. اهـ.

.قال الفخر:

في تعلق هذه الآية بما قبلها وجهان الأول: أن عبد الله بن جحش قال: يا رسول الله هب أنه لا عقاب فيما فعلنا، فهل نطمع منه أجرًا وثوابًا فنزلت هذه الآية، لأن عبد الله كان مؤمنًا، وكان مهاجرًا، وكان بسبب هذه المقاتلة مجاهدًا والثاني: أنه تعالى لما أوجب الجهاد من قبل بقوله: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} [البقرة: 216] وبين أن تركه سبب للوعيد أتبع ذلك بذكر من يقوم به فقال: {إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَاجَرُواْ وجاهدوا فِي سَبِيلِ الله} ولا يكاد يوجد وعيد إلا ويعقبه وعد. اهـ.

.قال ابن عاشور:

والذي يظهر لي أن تعقيب ما قبلها بها من باب تعقيب الإنذار بالبشارة وتنزيه للمؤمنين من احتمال ارتدادهم فإن المهاجرين لم يرتد منهم أحد. وهذه الجملة معترضة بين آيات التشريع. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{هاجروا} أي فارقوا أوطانهم وعشائرهم، وأصله من الهجر الذي هو ضد الوصل، ومنه قيل للكلام القبيح: هجر، لأنه مما ينبغي أن يهجر، والهاجرة وقت يهجر فيه العمل، والمهاجرة مفاعلة من الهجرة، وجاز أن يكون المراد منه أن الأحباب والأقارب هجروه بسبب هذا الدين، وهو أيضًا هجرهم بهذا السبب، فكان ذلك مهاجرة، وأما المجاهدة فأصلها من الجهد الذي هو المشقة، ويجوز أن يكون معنى المجاهدة أن يضم جهده إلى جهد آخر في نصرة دين الله، كما أن المساعدة عبارة عن ضم الرجل ساعده إلى ساعد آخر ليحصل التأييد والقوة، ويجوز أن يكون المراد من المجاهدة بذل الجهد في قتال العدو، وعند فعل العدو، ومثل ذلك فتصير مفاعلة. اهـ.

.قال ابن عاشور:

و{الذين هاجروا} هم الذين خرجوا من مكة إلى المدينة فرارًا بدينهم، مشتق من الهَجْر وهو الفراق، وإنما اشتق منه وزن المفاعلة للدلالة على أنه هجر نشأ عن عداوة من الجانبين فكل من المنتقِل والمنتقَل عنه قد هجر الآخر وطلب بُعده، أو المفاعلة للمبالغة كقولهم: عافاك الله فيدل على أنه هجر قومًا هَجرًا شديدًا، قال عبدة بن الطيب:
إنَّ التي ضَرَبَتْ بيتًا مُهاجَرَةً ** بكوفةِ الجند غَالت وُدَّها غول

والمجاهدة مفاعلة مشتقة من الجَهْد وهو المشقة وهي القتال لما فيه من بذل الجهد كالمفاعلة للمبالغة، وقيل: لأنه يضم جُهده إلى جُهد آخر في نصر الدين مثل المساعدة وهي ضم الرجل ساعده إلى ساعد آخر للإعانة والقوة، فالمفاعلة بمعنى الضم والتكرير، وقيل: لأن المجاهِد يبذل جهده في قتال من يبذل جهده كذلك لقتاله فهي مفاعلة حقيقية. اهـ.

.قال أبو حيان:

وقد احتوت هذه الجملة على ثلاثة أوصاف، وجاءت مرتبة بحسب الوقائع والواقع، لأن الإِيمان أولها، ثم المهاجرة، ثم الجهاد في سبيل الله. ولما كان الإِيمان هو الأصل أفرد به موصول وحده، ولما كانت الهجرة والجهاد فرعين عنه أفردا بموصول واحد، لأنهما من حيث الفرعية كالشيء الواحد. وأتى خبر: إن، جملة مصدرة: بأولئك، لأن اسم الإشارة هو المتضمن الأوصاف السابقة من الإيمان والهجرة والجهاد، وليس تكريرًا لموصول بالعطف مشعرًا بالمغايرة في الذوات، ولكنه تكرير بالنسبة إلى الأوصاف، والذوات هي المتصفة بالأوصاف الثلاثة، فهي ترجع لمعنى عطف الصفة بعضها على بعض للمغايرة، لا: إن الذين آمنوا، صنف وحده مغاير: للذين هاجروا وجاهدوا، وأتى بلفظة: يرجون، لأنه ما دام المرء في قيد الحياة لا يقطع أنه صائر إلى الجنة، ولو أطاع أقصى الطاعة، إذ لا يعلم بما يختم له، ولا يتكل على عمله، لأنه لا يعلم أَقُبِل أم لا؟ وأيضًا فلأن المذكورة في الأية ثلاثة أوصاف، ولابد مع ذلك من سائر الأعمال، وهو يرجو أن يوفقه الله لها كما وفقه لهذه الثلاثة، فلذلك قال: فأولئك يرجون، أو يكون ذكر الرجاء لما يتوهمون أنهم ما وفوا حق نصرة الله في الجهاد، ولا قضوا ما لزمهم من ذلك، فهم يقدمون على الله مع الخوف والرجاء، كما قال تعالى: {والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة}.
وروي عن قتادة أنه قال: هو لأخيار هذه الأمة، ثم جعلهم الله أهل رجاء، كما يسمعون، وقيل: الرجاء دخل هنا في كمية الثواب ووقته، لا في أصل الثواب، إذا هو مقطوع متيقن بالوعد الصادق. اهـ.